وجدت المجهودات اليمينية لحظر الشريعة الإسلامية ضالتها، وأول رعاتها في هذه البلدة متوسطة الحجم القائمة حول حرم جامعي في قلب ولاية تينيسي، هنا أيضاً؛ قام أحد أعضاء الكونغرس بالمساهمة في تقديم مشروع “قطع التمويل عن اللاجئين المسلمين”، ورفع السكان المحليون دعوةً قضائيةً لوقف بناء المسجد الوحيد في البلدة قبل أن ينتهي النزاع أمام المحكمة العليا.
واصل المسلمون حياتهم اليومية رغم كل هذا، واستمروا في تربية أبنائهم وإقامة صلواتهم، والتدريس في الكلية وكتابة الوصفات الطبية وتعبئة خزانات سياراتهم بالوقود؛ مُشاركين في الحياة المدنية داخل مدينةٍ يصل عدد سكانها لـ126 ألف نسمة بحسب تقرير لصحيفة “واشنطن بوست“ الأميركية.
إعلان

وشعروا بالحزن المعتاد والخوف من الانتقام العام الماضي، عندما قَتَل رجلٌ مسلم أربعةً من مشاة البحرية الأميركية في “تشاتانوغا” على بعد 90 دقيقةٍ فقط.
والآن تم انتخاب دونالد ترامب –الرجل الذي يواصل إلقاء شكوكه في وطنية المسلمين مراراً وتكراراً- وقد اختار الجنرال المتقاعد مايكل فلين ليكون مستشاره للأمن القومي، وهو الرجل الذي وصف الإسلام بـ”السرطان”. ومرةً أخرى تسرب القلق البالغ إلى الحياة اليومية للعديد من أبناء الجالية المسلمة التي يصل عددها إلى 1500 شخص.
مضايقات
تعرض المسلمون للقليل من المضايقات والإهانات في الفترة التي أعقبت الانتخابات –في المدارس ومواقف السيارات وعلى الطريق- لكن لم يكن من بينها ما يستدعي تدخل الشرطة أو ظهور مورفريسبورو على عناوين الصحف الوطنية مرةً أخرى.
وقال صالح سبيناتي، أستاذ الهندسة في جامعة وسط ولاية تينيسي، وأحد مؤسسي المركز الإسلامي في مورفريسبورو: “في الوقت الحالي، نأمل أن تبقى الأوضاع هادئة. ولكننا لا نعلم إذا كان هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، أم يليها”.

بوتقةٌ تنصهر فيها الثقافات، أم همزة الوصل مع الحزام الإنجيلي؟
مورفريسبورو هي واحدة من أسرع المدن نمواً في البلاد وأكثرها تنوعاً. حيث يذهب الطلاب المسلمون والمسيحيون للمدارس ويمارسون الرياضة معاً، وتتردد أسرهم على نفس المطاعم والمتاجر.
وعادة ما تُوصف المدينة من سكانها على أنها مثالٌ يُحتذى به لحُسن الضيافة في ولايات الجنوب، وهي بوتقةٌ تنصهر فيها الثقافات المختلفة وإحدى الضواحي الصغيرة لمدينة ناشفيل، وهمزة الوصل مع الحزام الإنجيلي (مصطلح غير رسمي يُطلق على إقليم يقع في جنوب شرق إلى وسط جنوب الولايات المتحدة، ويشكل المحافظون جزءاً رئيسياً من ثقافته، وتمتلك الكنيسة المسيحية فيه حضوراً أعلى من بقية الولايات).
ويضم وسط المدينة المحكمة القديمة والنصب التذكاري لجنود الكونفدرالية، بالإضافة إلى مراكز التسوق الصغيرة وسلاسل المتاجر، علاوةً على المجمعات السكنية الجديدة وحقول القطن القديمة، وجامعة يدرس بها أكثر من 20 ألف طالبٍ وطالبة.
يمكنك هنا أن تتوجه بسيارتك لمطعم الشاورما الشهير لتناول بعض المأكولات العربية، ثم تعود إلى سيارتك لتستمع إلى مذيع البرنامج الحواري مايكل سافيج على الراديو وهو يتساءل عن عدد المحاربين القدامى الذين يقضون وقتهم في السجن لأنهم “امتلكوا الشجاعة الكافية لقتل مسلمٍ-فاشي”.
ومن بين مئات دور العبادة في المدينة، توجد 59 كنيسة إنجيلية من بينها كنيسة العرب الإنجيلية، وكنيسة غريس الإنجيلية التي رحب شماسها ببناء مسجدٍ مجاور عام 2010، بإقامة 23 صليباً أبيض ضخماً على الطريق.
ولكن هناك أشخاصٌ مثل عبده قطية -الصيدلي في وولغرينز وأحد مؤسسي المسجد- وجايسون بينيت -الداعية الإنجيلي للمشردين وأحد معارضي بناء المسجد في السابق- الذين أصبحوا الآن بمثابة الأصدقاء المقربين.
ويوجد أشخاصٌ آخرون مثل الرجل الذي يعتبر نفسه “إنجيلياً جنوبياً يمينياً”، وأثناء تسوقه في متجر بولزاي للأسلحة والذخائر مؤخراً، أخبرنا أنه على ثقةٍ بأن المسلمين يعتقدون أن لديهم الحق في “قتلك واستعباد زوجتك جنسياً”.
رفض الرجل الإفصاح عن اسمه لأنه، على حد قوله، يمتلك العديد من العاملين المسلمين في شركته بالقطاع الصحي، ولا يرغب في أن يعرفوا حقيقة شعوره. وأضاف أنه ما زال يذهب معهم إلى حفلات الشواء ويحضر معهم مباريات الكرة.
ومن ناحية أخرى، يقول جيمس ماكارول جونيور، قس الكنيسة الإنجيلية الأولى: “نحن نشهد المزيد من القبول والتسامح، ويرجع الفضل الأكبر في ذلك للجامعة التي تضم عدداً كبيرا من أبناء الجالية المسلمة”.
زهور على باب المسجد
في اليوم التالي للانتخابات، ترك عدد من الأشخاص باقات الزهور على باب المسجد، كما اقترب أحد المواطنين من الإمام المصري الجديد داخل متجر وول مارت ليرحب بقدومه إلى المدينة.
ولن نجد شيئاً يصف مدى تعقيد الموقف أفضل من علاقة أسرتي تامي وأحمد رجب، حيث يتشارك ثلاثة مسلمين محافظين المنزل مع ثلاثة مسيحيين إنجيليين. حيث قام الزوجان بشراء البيت منذ خمس سنوات.
بالنسبة لأسرة رجب؛ يشكل ترامب تهديداً شخصياً لهم. حيث يرون أن سياسات وخطابات ترامب قد شجعت الناس على مهاجمة المسلمين وتشويه سمعتهم، بما في ذلك ابنتهم التي تبلغ من العمر 12 عاماً، التي تعرضت لتهديداتٍ في المدرسة بعد أسبوعٍ من الانتخابات، على حد قولهم.
بينما صوت والدا تامي وأختها لدونالد ترامب.
وطوال خمس سنواتٍ من اختلاف وجهات النظر وأساليب الحياة –حيث تقوم كل أسرةٍ بالطهي على حدة ومشاهدة قنوات أخبار مختلفة والاحتفال بأعيادٍ متنوعة- يسود المنزل نوعٌ من التناغم، لأنهم يحبون بعضهم البعض، على حد قولهم.
تتناول أسرة تامي لحم الخنزير، وتذهب للكنيسة باستمرار، كما تمتلك خزانةً كاملةً من تماثيل المسيح في المنزل؛ على حد قول تامي. كما يقومون بتذكير حفيدتهم بالصلاة خمس مراتٍ في اليوم ومساعدتها في اختيار ملابسٍ تتماشى مع حجابها.
وتقول تامي عن والدتها: “في الوقت نفسه، عندما يتعلق الأمر بترامب؛ تقول والدتي إن ترامب لم يذكر الأمر سوى مرةً واحدة”.
وأضافت تامي التي اعتنقت الإسلام قبل عدة سنواتٍ من لقائها بأحمد (المهاجر المصري): “أسرتي لا تعتقد أن ترامب سينفذ ما قاله بخصوص المسلمين”. وعندما توسلت إلى والدتها لتأخذ المعاناة التي قد يتعرض لها المسلمون تحت حكم ترامب، يكون رد الأم بأن “هذا هو اختيارك”.
وتقول والدتها، ليندا هارمون، إنها تعلم أن “الكثيرين قلقون من أن المسلمين سيتعيَّن عليهم تسجيل بياناتهم والعودة إلى بلادهم مرةً أخرى. ولكن الكثير من المسلمين يرغبون في فحص المواطنين والتأكد من أنهم لا يشكلون خطراً على المجتمع… ولا أعتقد أن ترامب سيقوم بترحيل أي شخصٍ لا يسبب المتاعب”.
“لم أكن أعلم أنك واحدٌ منهم”
يحكي قطية (الصيدلي) عن يومٍ منذ عدة سنوات، عندما دخلت إحدى الزبائن إلى الصيدلية للحصول على الدواء وقالت: “هل عرفت أن أولئك المسلمين الملاعين يرغبون في بناء مسجد في البلدة؟”
أخبرها قطية –المهاجر السوري- بأنه مسلم. وكان لون بشرته يشبه الأميركيين ذوي البشرة البيضاء، حاله حال العديد من المهاجرين العرب في البلدة. وتسبب هذا الحوار في لحظةٍ من الصدمة، أتبعها خروجٌ على عجل، واعتذار لاحق بعدها بأسبوع.
وتذكر قطية حديثها في زيارتها التالية، حيث قالت: “لم أكن أعلم أنك واحدٌ منهم. لقد أردت أن أعتذر. يمكن الاتصال بي في حال احتجت إلى شيء”.
غيرت هذه الواقعة من نظرة قطية، حيث قال: “ربما لا يعرف الجميع كثيراً من الأمور عن بعضهم البعض”.
العام الماضي، قام قطية بتأسيس جمعية مورفريسبورو للشباب المسلم، وهي جمعية لخدمة المجتمع تهدف إلى إبراز المسلمين وتعريف الناس بهم، خاصةً المواطنين الذين لا يجرؤون على زيارة المسجد.
ويقول قطية: “ما يفشل الأميركيون في فهمه، هو أن معظم المهاجرين المسلمين كانوا يعيشون تحت سطوة حكمٍ دكتاتوري. لذلك فالخوف هو جزءٌ لا يتجزأ من شخصيتهم. وهو ما يدفعهم للانكماش والانغلاق على أنفسهم عندما يشعرون بالخوف. وأعتقد أن هذا هو نقيض ما يجب أن يحدث. فعليك أن تمد يديك لحلفائك. وستصيبك المفاجأة من كم الأيدي التي ستُمد إليك”.
بعد الانتخابات بأسبوع؛ اجتمع أعضاء الجمعية –معظمهم بعمر المراهقة وأوائل العشرينات- في ميدان البلدة وقاموا بتوزيع الزهور على المارة. وانضم إليهم أشخاصٌ من المعتقدات الدينية الأخرى أيضاً. وفي عيد الشكر، قام الطلاب بطهي وإعداد 48 وجبة وتوزيعها على الأسر المحتاجة.
وتقول بسنت سالم (18 عاماً)، والمنتقلة منذ خمس سنوات لمورفريسبورو من مورجانتاون في فيرجينيا الغربية، بعد أن أصبح والدها أستاذاً في علم الوراثة بالجامعة: “عندما أقمت فعالية (التقِ بمسلم) في الحرم الجامعي في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، اقترب مني معظم الطلاب قائلين إنهم لم يسبق أن قابلوا مسلماً من قبل”.
وأضافت سمر (21 عاماً)، شقيقة بسنت التي سبق أن قدمت الكعك للمتظاهرين ضد بناء المسجد: “لسنا بحاجةٍ لتغيير آراء الناس. كل ما علينا فعله هو أن نريهم أننا لسنا كما يعتقدون”.
“أعتقد أننا سنشهد بعض الأوقات العصيبة جداً”.
ما يثير قلق وحيرة العديد من المسلمين وأصدقائهم هنا، هو ما يخبئه المستقبل. ما مدى التأثير الذي سيحدثه ترامب كرئيس في مجتمعٍ لا يثق بالمسلمين أصلاً؟
بينيت، هو مدير جمعية مورفريسبورو الدورية لمساعدة المشردين، وكان من المنتمين إلى كنيسةٍ إنجيليةٍ معارضةٍ لبناء المسجد، الذي اتهمه المتظاهرون والسياسيون بدعم الإرهاب. واقتحم المخربون موقع البناء ثلاث مرات، قاموا خلال إحداها بإشعال النار في معدات البناء. تغيرت وجهة نظر بينيت بعد لقائه بقطية والمسلمين الآخرين الذين انخرطوا في توفير الخدمات المجتمعية للمحتاجين.
ويقول بينيت إن المخاوف والادعاءات الكاذبة –عن أن المسلمين يعبدون إلهاً آخر ويتعلمون الكذب واستخدام المساجد كمراكز لتدريب المتشددين- ما زالت منتشرةً بشدةٍ في خطب يوم الأحد وحلقات دراسة الإنجيل بالبلدة، تماماً كما كانت منذ خمس سنوات.
وأضاف بينيت: “كل هذه الأمور ما زالت موجودة. وعندما تبدأ السياسات الجديدة في الظهور على الساحة في يناير/كانون الثاني؛ أعتقد أننا سنكون على مشارف أوقاتٍ عصيبةٍ من جديد”.
وأعرب ماكارول، الذي يرأس كنيسةً أغلبيتها من الأميركيين-الأفارقة في مورفريسبورو، عن نفس المخاوف؛ حيث قال: “قد نشهد نزوح بعض الناس وتركهم لبيوتهم. الأمر الآن مجرد كلامٍ عرضي. لكنني أعتقد أن البلد يحبس أنفاسه استعداداً لما هو آتٍ”.
وإذا سألت السكان المحليين عن الكنائس التي تناهض الإسلام، سيشير معظمهم إلى كنيسة التواصل العالمي، أكبر كنائس البلدة.
وأعلنها القس آلن جاكسون صريحةً خلال جلسة استماع أمام المحكمة بخصوص خطة بناء المسجد عام 2010، حيث قال: “يتوجب علينا التحقيق مع أي شخصٍ تحت راية الإسلام”.
ترفض الكنيسة التعليق على رأي جاكسون الآن، ولكن أحد المتعبدين في الكنيسة صرح بأن القس يستمر في الحديث عن الإسلام من منظور الحرب المقدسة: “هو يعتقد بأن الأمر إنجيلي من الكتاب المقدس”.
الرجال والنساء الذين شاركوا في مقاضاة المسجد والتظاهرات ضد بنائه، ما زالوا يزورون قطية للحصول على الدواء في الصيدلية، ويشترون الدونات والسجائر من عصام محمد في كويك مارت، أو يحضرون محاضرات سبيناتي في الهندسة.
يقومون بتبادل الأحاديث الودية. يتعاملون باحترام. ويمضون في طريقهم.
ويرى هوارد وول الأمر كالتالي: “إذا اضطررت للذهاب إلى المتجر لشراء المياه الغازية أو شيءٍ من هذا القبيل؛ فأنا أتعامل معهم بلطفٍ كما يتعاملون معي”. وول وزوجته سالي من المستثمرين المحليين الذين كانوا من ضمن المشاركين في رفع الدعوى القضائية لوقف بناء المسجد، وهو النزاع الذي انتهى برفض المحكمة العليا بالولايات المتحدة للقضية.
لا ينتوي الزوجان الدخول في نزاعٍ آخر. كما لا يعتقدون أن للأمر أهمية، لأن ترامب سيقوم بتحديد وصول المزيد من المسلمين.
وتقول سالي وول: “مورفريسبورو ليست بحاجةٍ للمزيد من المسلمين. أعتقد أنهم يمكنهم البقاء في بلادهم، ونحن سنبقى في بلادنا”.
لكن هناك المزيد من التعاطف والتسامح بسبب الانتقادات العلنية الموجهة للمسلمين على خلفية قضية المسجد، وفقاً لتصريحات بيل تشاكليت، عضو مجلس المدينة.
حيث قال تشاكليت: “أتمنى لو لم تحدث بعض الأمور. ولكن المكسب الوحيد من الأحداث السابقة، هو أنها دفعت الناس لفتح قلوبهم وعقولهم لتقبل الغير… والانفتاح على الآخرين وتجسيد جوهر التسامح في عقيدتك أمامهم”، مُشيراً إلى أن المسلمين والمسيحيين قد شرعوا في تطبيق ذلك بالفعل.
“ربما لم يكن هذا ليحدث، لو لم يتم تسليط الضوء علينا بسبب كل هذا”.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأميركية