تهرب من واقعك اليومي المتلبد، المليء بالتعقيدات والمشاكل إلى عالمك الافتراضي “الفيسبوك”؛ إضاعة للوقت الذي يمر بك ثقيلاً، أو بحثاً عن صديق تُفضفض له ما يخالج صدرك من قلق، أو عن بعض ما يدخل السرور على قلبك.
وأنت تتصفح الاستقبال، يعترضك شيء مما تمني به النفس من متعة أو مزاح، لكن يستوقفك البعض بمنشوراتهم وصورهم التي تصيبك بالملل. لا ريب أنكم تعلمونها جيداً، إنها تلك المنشورات التي تعلمنا أنهم يقرأون كتاباً أو يشاهدون فيلماً أو يحتسون قهوة أو يأكلون “بيتزا” أو أنهم مسافرون إلى مكان معين، ولا ننسَ تلك التي يتذمرون فيها من المحاضرات التي يغالبهم فيها النعاس أو المذاكرة والامتحانات. وطبعاً، تلك الصور التي تكون مرفقة أو موثقة فيما بعد لما كُتب، بحيث لو جُمعت كلها صرت مطلعاً على مناقب حياة ذلك الشخص ودرجة وعيه.
في الحقيقة، ليست الصور أو المنشورات، في حد ذاتها، التي تصيبك بالملل، فكلنا نفعل ذلك أحياناً لنقول لمعشر النشطاء في هذا العالم إننا موجودون، ولنروِّح عن أنفسنا ساعة بعد ساعة من خلال تفاعلهم. لكن تنزيلها بصفة يومية هو ما يحدث هذا الشعور، ويسبب لك تبلداً فكرياً، كما يرفع من منسوب القلق إذا قمت بمتابعة هؤلاء.
إعلان

لذا، فإن زر “unfollow” هو الحل الذي يريحك من تفاصيل حياتهم اليومية التي يقحمونك فيها رغماً عنك. لكن، يبقى السؤال الأهم: ما أسباب هذه الظاهرة؟ لِمَ لا يحتفظون بشيء من الخصوصية -التي كانت بالأمس عزيزة فهانت- لأنفسهم؟ لِمَ يُطلعون الناس على تفاصيل حياتهم؟
السبب الأول: ربما.. تأثير “السيلفي” العجيب الذي لا يستطاع معه صبراً، وتطبيق “الإنستغرام” الذي تتمحور فكرتها حول تنزيل صور حياتك اليومية، هما اللذان عمَّقا هذه الظاهرة ودفعا بها نحو الاستفحال؛ فلم يكن الأمر كذلك إلا بعد ظهورهما.
السبب الثاني: لا شك في أن الإنسان يسعى إلى إثبات ذاته بين المجموعة من خلال أفعاله وأقواله ليلفت انتباه الناس إليه ويقول لهم: “أنا ذا موجود ويمكنني أن أسهم في بناء المجتمع، لا تستخفّوا بقدراتي؛ فكلي طاقة وحماسة!”. وحيث إن مجتمعاتنا العربية لا تتيح لك الفرص الكافية لتكون فاعلاً بها؛ إذ إن معظمها لا يُولي الشباب قدراً كافياً من الدعم والاهتمام، لذا يلجأ هؤلاء الشباب إلى مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة منها الفيسبوك؛ ليوصل صورته إلى من حوله حتى بما يفعله كل يوم؛ ليثبت ذاته وكيانه في عيونهم، ويدخل السرور على قلبه بتفاعلهم.
ببساطة، هم يجدون التفافاً حولهم وعدداً كبيراً من المتابعين والمهتمين بالفيسبوك أكثر من الواقع، هم يحسون بالثقة بأنفسهم هناك. أما عن الخصوصية، ذلك الشيء الذي يختص به فرد أو مجموعة أفراد لهم الحق وحدهم أن يعلموه، يميزهم عن غيرهم كما يحميهم من الانتهاك والتحلل والضياع. هو صندوق أسرارهم الذي يحوي بياناتهم الشخصية، سقط هذا الصندوق في “بحر الأزرق الفيسبوكي”، أسقطته فتاة تبحث عن عريس تتزين كل حين وتنزل صورها أينما حلت! أو شاب مغرَم بنفسه وشعره المتمايل وجسده الرياضي يحاول أن يجذب الفتيات إليه! أو زوجان شابان ينقلان لنا صورهما الرومانسية في “شهر العسل”!
لقد طغى الشعور بالفخر والاعتزاز في نفوس نشطاء الفيسبوك بما يفعلون، بلحظات الفرح والمتعة التي لا يحظى بها كثيرون، بكثرة التعاليق والإعجابات. طغى كل هذا على الاحتفاظ بتلك التفاصيل المملة وحماية الخصوصية، حتى صارت البيوت اليوم مفتوحة بعدما كانت أمانة وستراً. لا تحملنّكم التكنولوجيا على أن تصيروا عبيداً لها، تصرِفكم عن التفكير والابتكار، وتجعل منكم مجرد مجتمع استهلاكي، كما تعرّض حياتكم الشخصية لخطر القرصنة، فحاذروا قبل فوات الأوان.