الطائرات.. إنها الأماكن التي نتشاجر فيها، ونُعطِل أجهزة الكشف عن الدخان لشرب السجائر بالمرحاض، وفيها أيضاً نغضب من بكاء الأطفال. وندفع بركبنا إلى ظهر الراكب الذي أخفض مقعده، ونسمح للبارانويا أن تجعلنا نتخيل تهديدات إرهابية في المقاعد المُحيطة بنا: راكبٌ يأخذ قيلولة قبل موعد الإقلاع، طالب جامعي يتحدث باللغة العربية عبر هاتفه، وخبير اقتصادي يدوِّن بعض المعادلات التفاضلية في مفكرته.
نحن لسنا في أفضل أحوالنا حين نكون على متن الطائرات
جاءت آخر حوادث الذعر عندما تم استجواب “جيدو مينتسو”، الأستاذ المشارك بجامعة بنسلفانيا من قبل السلطات لأنه على ما يبدو قد أثار فزع الراكب المجاور له بسبب الحسابات الرياضية التي كان يجريها. يدفعنا الموقف إلى طرح أسئلة مألوفة: هل وصلنا إلى هذا الحد؟ لماذا نتصرف بكل هذا الحذر على متن الطائرات؟ وما مشكلتنا؟
الجواب عن تلك التساؤلات، بحسب ما نشرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، هو: الكثير من الأشياء! التي تظهر جميعاً عندما يتم ربطنا بمقعد على ارتفاع 33 ألف قدم، إنها حالة غير طبيعية، إذا فكرت في الأمر، فأنت محشور بأنبوب في الجو، على ارتفاع أميال من سطح الأرض يحيطك الغرباء.
فقدان السيطرة
مارتن سيف، وهو معالج نفسي يركز عمله على الذين يعانون خوفاً مرضياً من الطيران، يقول إن الأمر يتلخص فيما يلي: سواء كان الأشخاص على وعي بالأمر أم لا، فالطائرة هي بيئة فريدة من نوعها تجبرنا على مواجهة حقيقة وجودية غير مريحة هي أننا لا نملك السيطرة على ما يحدث”.
يضيف سيف: “لا أحد منا يحب أن يشعر بعدم سيطرته على زمام الأمور. وفي الحقيقة، نحن لا نسيطر على ما يجري أبداً، لكننا لدينا الوهم بأننا مُسيطرون، ومن الصعب جداً الإبقاء على هذا الوهم على متن طائرة”.
وإن كان ذلك ليس كافياً ليجعلك غير مُرتاح، فقد لاحظ سيف أن هناك عدداً كبيراً من المخاوف الأخرى التي يعاني منها الركاب. فربما تخاف من المُرتفعات، ويُحتمل أنك لا تحب الأماكن المُغلقة، وقد يكون لديك قلق اجتماعي، أو أنك تعاني خوفاً مرضياً ، أو أنك مهووس بإمكانية وقوع هجوم إرهابي.
يقول سيف إن مُصطلح “الخوف من الطيران” يُعد تسمية خاطئة، فالتسمية الصحيحة – في رأيه – هي “المخاوف من الطيران”، حيث إن الطائرة هي بيئة مثالية للاضطراب تتقاطع فيها كل تلك المخاوف المختلفة.
ومن الممكن لجميع تلك المخاوف أن تخلق حالة ذهنية غير طبيعية من شأنها جعل التقييم العقلاني لتهديد مُحتمل أمراً صعباً.
ويضيف سيف: “إن كنت تعاني القلق فسيكون لديك انفعال متزايد حيال التهديد، فأنت في تلك النقطة وبشكل أساسي تفحص العالم بحثاً عن التهديدات، لذا فإن أي شيء وأي عنصر يبدو غير مألوف بالنسبة لك قد يعد تهديداً. ويمكن حالياً أن يُعد ذلك شكلاً من أشكال “الإسلاموفوبيا”.
وعندما يتعلق الأمر بالتهديدات الإرهابية، فإن هُناك الكثير من الأماكن العامة الأخرى التي تمثل أخطاراً أكبر من السفر جواً، فالهجمات المدمرة التي وقعت خلال نوفمبر/تشرين الثاني، في باريس، كانت تذكيراً فظيعاً بأن حياتنا مُحاطة بـ”الأهداف السهلة” كالمقهى الذي نتناول به الغداء، أو الحافلة التي نركبها للذهاب إلى العمل، أو الملهى الليلي الذي نذهب إليه لمشاهدة أحد العروض.
ومع ذلك، فإنه على خلاف ما يجري عليه الأمر بالطائرة، تمتلئ الأماكن الأخرى بالمُلهيات، فبإمكانك الحديث إلى الأصدقاء، أو الرقص على الموسيقى الصاخبة، وبذلك فإن وهم السيطرة يبقى قائماً كأن تقول: هُناك مخرج على مقربة، أو أن المحطة التالية لتوقف الحافلة تبعد فقط مسافة تقاطع واحد.
السفر الجوي قد يكون مملاً ولا يدعو للحماس، وهذا يسهِّل على العقل استسلامه للأفكار الأكثر جنوناً. وثمة أشياء سيئة يُعرف أنها قد حدثت من قبل، فالكوارث الجوية وإن كانت نادرة، إلا أنها تظهر دوماً كخبر رئيسي، والمخاوف حيالها تتضخم في أذهاننا. رؤية سرد بصري لحادث مُريع يسهّل علينا تخيل ما يحدث، وهي ظاهرة تعرف باسم “إمكانية الحدس”.
“تلك الأنواع من المخاوف تتزايد في المواقف العامة، لاسيما في موقف يكون فيه الفرد بمكان مُغلق يصعب الهرب منه”، هكذا يقول دانيال فريمان، الأستاذ وعالم النفس بجامعة أكسفورد الخبير في البارانويا، وأضاف: “من السهل جداً بالنسبة لنا أن نتذكر أعمالاً إرهابية مروّعة. وفور إمكانية استدعاء شيء ما إلى عقولنا نقوم بتضخيم ما يحدث في الواقع”.
يتابع فريمان: “بالنسبة لبعض الناس، تستدعي الطائرات حتماً صور هجمات 11 سبتمبر/أيلول، فإنها بأذهاننا على أي حال، لأننا خضعنا للتو للكثير من إجراءات التفتيش الأمني”.
والقليل فقط بإمكانهم فهم التوازن الهش للركاب على متن الطائرات أكثر من مُضيفات الطيران، اللاتي لديهن مهمة لا يُحسدن عليها في التعامل مع قلق المسافرين (سواء الجامح أو الكامن).
“عندما نذهب إلى العمل كل يوم، نعلم أنه في مقصورة الطائرة المحدودة، التي تحتوي الكثير من الناس، هُناك احتمال أكبر لنشوب صراع”، هكذا تقول سارة نيلسون، رئيسة رابطة المضيفات، وتضيف: “نحن نهدئ المواقف المحتدمة طوال اليوم، فبإمكان الركاب أن يحوّلوا مشكلة صغيرة جداً إلى شجار حقيقي”.
جانب إيجابي
وتؤكد نيلسون أنه لا يوجد خيار للمضيفات سوى أن يتخطين الأمر بتوخي الحذر، فالبديل عن ذلك ببساطة خطير للغاية. “نحن مدربون على أن أول وأفضل طريقة للتعامل مع مشكلةٍ ما هو إبقاؤها خارج الطائرة”.
وقد شهدنا حالات بديلة عن ذلك النهج، ففي فبراير/شباط الماضي، قامت سيدة في حالة سُكْر بالتعدي على عدد من الركاب على متن الطائرة، وقامت 5 نساء (يُزعم أن اثنتين منهن كانتا في حالة سُكر) بضرب مُشغل كاسيت محمول كان يعمل بصوت عالٍ على متن طائرة خطوط Spirit الجوية، وقام رجل بمحاولة خنق امرأة متكئة على مقعد أمامه.
والأغنياء والمشاهير أيضاً ليسوا في مأمن من الدراما على متن الطائرات، فقد واجه شقيق باريس هيلتون الأصغر ويدعى “كونراد”، اتهامات من قِبل الشرطة الفيدرالية بعد قيامه بتهديد وترهيب المضيفات على متن رحلة دولية في الصيف الماضي. وقال موظفو شركة الطيران إنه بدا تحت تأثير المخدرات.
وفي عام 2011، تعرض مغني فريق “جرين داي” للروك، بيلي جو آرمسترونغ، للطرد من رحلة تابعة لشركة طيران Southwest الجوية بسبب ردّه الفظ على مُضيفة طلبت منه رفع سرواله الذي كان نازلاً. (واعتذرت شركة الطيران عن الواقعة لاحقاً).
وربما شكّلت تلك الحوادث عناوين إخبارية لا تُنسى، لكنها في الواقع ليست شائعة لهذه الدرجة. فالعام الماضي وثّقت إدارة الطيران الاتحادية 99 حالة شغب من الركاب، وهو ما يشير إلى انخفاض عدد الحالات الذي بلغ 145 حالة في 2014، وعلى مدار العام الجاري، اعتباراً من أبريل/نيسان تم تسجيل 9 حوادث فقط.
يقول فريمان إنه قد يكون هناك جانب إيجابي في الأمر، فمن الممكن أن تساعد قصص الإنذارات الكاذبة وردود الفعل المفرطة على تقليل مثل تلك الحوادث في المستقبل. فمثلما تصاحبنا القصص المُخيفة بإمكان الحالات الأخرى ترك انطباع أيضاً.
ويتابع فريمان قائلاً: “أعتقد أن تلك القصص قد تساعد على تهدئة مخاوف الناس، حيث يرون أنه لا يتوجب عليهم المبالغة، وأنه لا يوجد تهديد”.
www.huffpostarabi.com