شعر بقلبه ينكسر، ولأول مرة ربما يملأ المرار قلبه، هدّأتُ روعه، طلبتُ منه الجلوس، لم تكن المرة الأولى أن ألاحظ هذا الطالب في قاعة محاضراتي، شاهدتُه عدة مرات يسأل أسئلة اعتدت أن أصفها بالمنطقية، إلا أن هذه المرة وجدته يجلس شاحباً، يبدو منكسراً على غير طبيعته، سألته عما حدث، لخّص لي الوضع، استجمع شجاعته وتقدّم ليطلب زميلته أحلام للزواج من والدها، الذي يراه أنه لم يرفضه فحسب؛ بل تعمّد إذلاله، حدّثه عن الأسعار اليوم، عن صعوبات الحياة، سخر من أسلوب تفكيره، من رومانسية مشاعره. علم بعدها أن والدها رأى في سلوك ابنته المشين مبرراً ليقرر لها زواجاً سريعاً؛ لأنه رأى أن هذه الزيارة تمثل مؤشراً خطراً في سلوكها يستوجب أن يعالجه في أسرع وقت قبل أن يستفحل ويعصى على العلاج.
كل الحديث الممكن والمتاح لي أن أكتب عنه وكل النصائح المعتادة في مثل هذه المواقف قلتُها، ولكن بداخلي لم أشعر بالرضا، ربما أكون قد خفّفت عنه ولو القليل، قابلته وأنا في طريقي للمطار بعد هذا الموقف بأعوام، بدا لي أنه في حاله جيدة، مهندم وأنيق، سارع إلى مساعدتي لإنجاز أوراقي والاطمئنان من شركة الطيران بأن مواعيد الإقلاع وتفاصيل الرحلة دقيقة وصحيحة، كان كل منا يحاول أن يتجنب الآخر، أنا يلحّ علي السؤال حول ما حدث بعدها، وهو تبدو عليه ملامح من يحاول تجنّب ذكر الموضوع، أنهيت لقائي إياه بعبارات الود الروتينية شكرته وأثنى على جهدي معهم في فترة الدراسة، ولقرب موعد الإقلاع سلمت عليه وانصرفت.
بعد خطوات قليلة، ربما شعر في أثنائها بالأمان وأنني لن أثير معه ذكريات الماضي، قرر هو أن ينادي علي قائلاً: “على فكرة يا دكتور، أنا تزوجت وعندي الآن ابنة جميله ستأتي مع زوجتي بعد قليل، سنسافر أسبوعين إجازة لأول مرة منذ زواجنا”. شعرت بالسعادة وهنّأته، قال لي: “أتذكر -يا دكتور- كم كنتُ ضعيفاً وكسيراً يومها؟”، أجبته متفادياً النظر إليه حتى لا أعرّضه للحرج، بأن “لكل منا لحظاتِ ضعفه وانكساره، وأنك والحمد لله يبدو لي أنك تجاوزتها ونجحت في حياتك على نحو كبير”، أجابني عن سذاجته في هذه الفترة وكيف مرت عليه أيام دون طعام وشراب، وكيف كان يهيم في الطرق ولا يعود إلا وقد أرهقه الإجهاد حتى يتمكن من النوم، أخبرني كيف قرر في داخله أن ينتزع من قلبه هذه الذكرى وألا يسمح لها بأن تحطم مستقبله. أخبرني كيف تعرض لأكبر اختبار في حياته بعدها عندما علم من زملاء دفعته بحفل زواجها وقرر أن يجيب الدعوة ضمن زملائه وكيف شاهدها بعينيه يتمّ زفافها على غيره، وكيف تعمّد أن يحتفل ويرقص ويشارك ليقتل كل ذرة حب تبقّت لديه، أو لينهي كل شكوك في عاطفة ما زالت بداخله نحوها. أخبرني كيف عاد لمنزله يومها فخوراً بما صنعه وطوى صفحتها إلى الأبد، وعاد لحياته وعمله.
كانت سعادتي به لا تُوصف، قلت له عما أشعر به الآن من ارتياح وكيف أنني بين والحين والآخر كنت أفكر فيه وهل نجح في تخطي تلك المرحلة الصعبة، حدثني عن سعادته قال لي: “أتذكر يا دكتور عندما قلتَ لنا في محاضرة مقولة جلال الدين الرومي: لا تحزن فأي شيء فقدتَه سيعود إليك في هيئة أخرى؟”. لقد كنت صادقاً يا دكتور، فقد سافرت بعدها وعملت باجتهاد وقابلت من صفا لها قلبي وسارت معي الحياة بسعادة وهناء، وتخطينا كل صعوبات الحياة معاً، كنت أعمل ليل ونهار، أشتري وأدخر وأبيع وأتاجر، والحمد لله بدأت أوضاعي تستقر الآن، وقررت أن أكافئ نفسي وزوجتي الحبيبة بإجازة قصيرة.
إعلان

وللحظة نظر بعيداً: “ها هي زوجتي وابنتي مقبلتيْن علينا، دعني أعرفك عليهما، فقد حكيت عنك لزوجتي في أثناء الخطبة وعن وقوفك إلى جواري”، رحّبت بذلك وأنا أنظر إلى زوجته، بدت رائعة الجمال، وابنته هي الأخرى، تتسع ابتسامته بمجرد أن رآها تقبل علينا، شردتُ للحظات وأنا أنظر إليهما، تذكرت كيف للإرادة أن تحكم مصير الإنسان، وكيف أننا نصنع بأيدينا المعاناة ونصنع الفرحة، كيف أننا نسمح للأحزان بأن تحاصرنا، وكيف يمكننا أن نغادر سجنها بيسر وقليل من الإرادة.
أقبلت الزوجة الجميلة، قال لها: “لن تتخيلي مع مَن أقف الآن، إنه الدكتور إيهاب الذي حدثتك عنه”. بادرتني بالتحية وذكرت لي كم حدّثها عني، وعن موقفي معه، شكرتها وأكدت أنني لم أقم إلا بواجبي، تمنيت لهما رحلة سعيدة. صافحته وصافحني والسعادة تملأ قلبي بهما، تمنيا لي أطيب الأوقات، ثم قالت لها الأم: “هيا سلّمي على الدكتور إيهاب يا أحلام”، بدا علي الارتباك وهلة! قبّلت الطفلة اللطيفة وانصرفت بابتسامة، لم أتمكن أن أنظر إليه، أردت أن أنهي هذا الموقف الذي زاد حيرتي.
صعدت سلم طائرتي وتذكرت جلال الرومي يقول: “الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه… أما ذاك الذي يحب بروحه وقلبه، فلا ثمة انفصال أبداً».