إلينا البالغة من العمر 8 سنوات، لاجئة مسلمة من سوريا، لم تَرَ المشهد الذي يُجسِد ميلاد المسيح في أعياد الكريسماس قبل العام الماضي.
لكن بعد تمكنها من المشاركة بكل أريحية في احتفالات إحدى المدارس الابتدائية العامة في وسط روما، من خلال برنامج لدمج اللاجئين تحت رعاية الكنيسة الكاثوليكية، تعرف الآن كل الشخصيات التي تُجسد المشهد وأسباب تواجدهم فيه. “الحكماء الثلاثة أحضروا هدايا جميلة للطفل يسوع بعد أن تتبعوا نجماً ساطعاً براقاً.. ثم يكبر الطفل ليصبح بطلاً”، هكذا شرحت ألينا لوالدتها التي كانت تستمع بعناية.
هالة، والدة ألينا، تريد أن تندمج ابنتها وشقيقها الأصغر، ذو السنوات الخمس والذي يذهب لإحدى رياض الأطفال الإيطالية المحلية، في المجتمع الإيطالي ولكن إلى حد معين فقط. قالت ذلك وهي لا تعني أي قلة احترام للكنيسة الكاثوليكية أو تعاليمها، وتنصح ابنتها بأن تتصور المشهد باعتباره “حكاية خيالية تُجسدها الدمى”، وفق ما ذكر تقرير لموقع “ديلي بيست” الأميركي.
إعلان

لكنها لن تمنعهم من المشاركة في محيط ثقافتهم الجديدة؛ حيث تقول: “إذا غَنوا أغاني العُطلة أو عرفوا المزيد عن المسيحية، فهذا سيُثري فقط فهمهم للعالم.. لكن أريد أن أعود إلى سوريا في يوم من الأيام، لذلك لا أريدهم أن يصبحوا أوروبيين أكثر من اللازم وينسوا تقاليدنا. هذا وضع مؤقت وليس دائماً”.
هالة وأطفالها
هالة وأطفالها يقيمون بالفعل في إيطاليا منذ 3 سنوات؛ كانوا من بين أول اللاجئين الذين وصلوا إلى اليونان عن طريق تركيا، وعلى الرغم من أنه تم إدراجهم على الفور في برنامج لإعادة التوطين، فإنهم كانوا ضمن قائمة انتظار طويلة. كانوا يأملون أن يذهبوا شمالاً إلى ألمانيا أو السويد، لكن عندما بدأت تنغلق الحدود وشعروا بنوع من العداء المتنامي، قدَموا طلبات للقدوم إلى إيطاليا مع مجموعة من العائلات اليتيمة الأخرى التي أرادت فقط أن تستقر بدلاً من الانتقال من بلد لآخر. كانت هالة قد شاهدت زوجها ينزف حتى الموت أمام منزلهم في حلب بعد تعرضه للضرب بسبب عدم انضمامه للجيش السوري. وأضافت: “هذه هي اللحظة التي أدركت فيها أننا لابُدَ أن نغادر.. لكنني أخذت عهداً على نفسي أن أعود يوماً ما”.
إلا أنه لا يستطيع أحد أن يجيب عن السؤال الأكبر الذي مفاده، هل هالة وأطفالها سيجدون ملاذاً آمناً لهم في سوريا يوماً ما في حياتهم؟ ولكن حتى ذلك الحين، تخطط هالة للاستقرار في إيطاليا، رغم معرفتها بأنها لن تتكيف مع الأوضاع هناك بشكل كامل، حيث تقول: “أنا مثل الدخيل هنا”.
وأضافت: “حتى داخل المجتمع المسلم الصغير هنا، نرى أنه يجب علينا جميعاً أن نبتعد عن الأضواء ونقوم فقط بما في وسعنا كي ننسجم ولا نثير أي ضجة. نحن بحاجة فقط للاندماج في المجتمع بكل ما في وسعنا”.
هالة ترتدي الحجاب لكنها ليست متأكدة من أنها ستجعل ألينا ترتدي الحجاب عندما تكبر. في هذه اللحظة، ترتدي ألينا اللون الوردي الناصع من أول رباط الشعر وحتى حذائها الرياضي. وأضافت هالة: “ربما سترتديه فقط داخل المنزل.. نحن نحاول بالفعل أن نوازن الأمر حتى تستطيع الذهاب إلى المدرسة”.
هالة وعائلتها جزء من مجتمع مسلم في إيطاليا يضم أكثر من 1.6 مليون مسلم، ما يجعله رابع أكبر مجتمع للمسلمين في أوروبا وثاني أكبر دين يُمارَس في إيطاليا؛ باستثناء حقيقة مفادها أن إيطاليا لا ترى الإسلام باعتباره ديناً على الإطلاق، حيث ترفض الدولة الاعتراف به رسمياً على هذا النحو، على عكس الاعترافات الرسمية باليهودية أو المورمونية. أكثر من 95% من الإيطاليين يسمون أنفسهم بالكاثوليك، وذلك وفقاً لبيانات التعداد السكاني الأخيرة، ما يجعل ثاني أكبر ديانة ضئيلة للغاية مقارنة بعدد الكاثوليك.
إلا أن عدم الاعتراف الرسمي من قبل الدولة بالإسلام كدين، الذي يغذيه غالباً قادة رابطة الشمال القومية المتطرفة، يجعل من المستحيل بالنسبة للمسلمين بناء مساجد كافية أو ممارسة شعائرهم الدينية علناً. وكان ماتيو سالفاني، زعيم رابطة الشمال، قد دعا المسلمين إلى “اعتماد الثقافة الإيطالية” أو كما يقول: “يمكنهم أن يذهبوا لبناء مساجدهم على أراضيهم”.
رفض لوجود الإسلام
الرفض الرسمي لوجود الإسلام في إيطاليا سمح كذلك لمناطق تعليمية معينة بالتمييز الصارخ، ما يدفع أولياء الأمور غير المسلمين إلى الإصرار على الفصول الدراسية المنفصلة. العديد من المدارس في شمال إيطاليا، معقل حزب رابطة الشمال، تستخدم حواجز اللغة ومنحنى التعلم كأسباب لعدم دمج اللاجئين والطلاب المسلمين في الصفوف الدراسية العادية. وحتى عندما يتم دمجهم، غالباً ما يكون هناك عدم احترام للاختلافات الثقافية. مؤخراً، أعلنت مدرسة في مقاطعة فاريزي شمال إيطاليا أنها طالبت جميع الأطفال بغض النظر عن دينهم، بأن يتباركوا بالماء المقدس الكاثوليكي خلال الاحتفالات الدينية.
ميركو دي كارلي، زعيم حزب “بوبولو ديلا فاميليا” المحافظ في إيطالي، الذي شجع إعلان هذا الطلب الرسمي بالمباركة بالمياه المقدسة، يضغط على المدارس في إيطاليا كي “تقف إلى جانب القيم الكاثوليكية مهما كان الثمن”.
لكن حتى لو أراد المجتمع الإسلامي في إيطاليا أن يعيش بشكل منفصل، تظل فرصته ضئيلة؛ فهناك فقط 8 مساجد رسمية في إيطاليا بأكملها، مقارنة بأكثر من 2000 مسجد في فرنسا، وأكثر من 1750 مسجداً في المملكة المتحدة، فضلاً عن أن المُشَرعين ضَيّقوا الخناق على المسلمين عن طريق إغلاق عدد من المراكز الثقافية الإسلامية وقاعات الصلاة التي يلتقي فيها المسلمون للعبادة، والبالغ عددها أكثر من 800 مركز وقاعة. وكان أنجيلينو ألفانو، وزير الداخلية الإيطالي، قد أعلن الصيف الماضي أنه “ينبغي حظر المساجد الصغيرة”.
وفي أكتوبر/تشرين الثاني هذا العام، قامت مجموعة من المسلمين بالصلاة خارج الكولوسيوم الروماني القديم احتجاجاً على قيام الشرطة بإغلاق عدة مراكز ثقافية وفض مجموعات المصلين. في ذلك الوقت، قال فرانشيسكو تييري، الذي اعتنق الإسلام مؤخراً، لوكالة فرانس برس: “نشعر بأن الناس يشيرون إلينا بأصابع الاتهام”. وأضاف قائلاً: “لا توجد إرادة سياسية تعترف بوجودنا وبأننا مجتمع سلمي. نحن مضطرون لاستئجار أماكن للصلاة والتي هي بالنسبة لنا مثل تنفس الهواء. إن لم نستطع تأديتها، نموت”.
المفارقة هنا هو كيف استطاع المعتنقون للإسلام منذ زمن طويل العيش في إيطاليا رغم ذلك الإهمال من قبل الدولة. الجامع الكبير في روما هو أكبر مسجد من نوعه في أوروبا، وبنيته مذهلة حقاً، فضلاً عن الطراز المعماري الرائع والديكور المتألق. وكثيراً ما يزوره المسافرون من كبار الشخصيات من الدول الإسلامية الذين يعتبرونه جوهرة بين المواقع الدينية الإسلامية.
المسجد مفتوح للجمهور مرتين في الأسبوع، وجميع النساء اللاتي يرغبن في شراء المواد الغذائية صباح يوم الجمعة في محيط المسجد عليهن تغطية رؤوسهم، وهناك مجموعات تبيع الأوشحة حول محيط المسجد لتسهيل هذا الأمر. لكن معظم المسلمين في إيطاليا يتعبدون في المرائب، والسندرات، وفي الغرف الخلفية من المتاجر، وعلى نحو وجيز، داخل كنيسة كاثوليكية سابقة كانت جزءاً من بينالي البندقية العام الماضي.
ويدرس مجلس مدينة روما حالياً السماح للمسلمين باستخدام صالة للألعاب الرياضية بإحدى المدارس كفضاء مؤقت للصلاة بعد أن أغلقت سلسلة من قاعات الصلاة.
مساجد ميلانو ونابولي معروفة للمسلمين وللسلطات كذلك، حيث تعترف السلطات في كل من إيطاليا والولايات المتحدة بأنها تراقب جميع أنشطة صلاة الجمعة وتُسَجِل أسماء المصلين أثناء الدخول والخروج. من يمكنه أن ينسى التسليم الاستثنائي لرجل الدين “أبوعمر” في واحدة من أكثر فضائح وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إثارة للجدل التي انطوت على زرع مجموعة للمراقبة في المسجد في ميلانو.
التماس رسمي
بالطبع سوء السمعة والاعتراف بالإسلام كدين هما طرفا الطيف، والمسلمون في إيطاليا يرغبون أكثر في هذا الطرف الأخير. في مايو/أيار الماضي، قدم الاتحاد الإسلامي الإيطالي، وهو فرع مغربي من الطائفة الإيطالية الإسلامية والجاليات الإسلامية الإيطالية، قدم مرة أخرى التماساً رسمياً للحكومة الإيطالية للاعتراف بالديانة الإسلامية. إلا أنه لم يتم الرد عليه حتى الآن، ويرجع ذلك في جزء منه إلى أن الجماعات الإسلامية الثلاث الرئيسية في إيطاليا معروفة بالتناحر حول ما تريده حقاً من السعي للحصول على هذا الاعتراف الرسمي، ما يعيق نجاح هذه الجهود. الحكومة الإيطالية، التي تشهد حالياً أزمة بعد استقالة رئيس الوزراء يوم الأربعاء 7 ديسمبر/كانون الأول، ربما لديها أولويات أخرى في الوقت الراهن.
يحيى بالافشيني، الإمام الحالي في ميلانو، الذي يرأس الطائفة الإيطالية الإسلامية، والتي تهتدي بالجماعة الدينية الإسلامية CO.RE.IS.، ربما هو الوجه الأكثر شهرة للإسلام في إيطاليا. يمثل بالافشيني الجالية المسلمة في معظم الفعاليات العلمانية والكاثوليكية، ومؤخراً كان محَطَّ الأنظار، حيث قاد احتجاجاً سلمياً في حملة بعنوان “ليس باسمي” #notinmyname بعد هجمات نوفمبر/تشرين الثاني في باريس. وكان حاضراً أيضاً في مراسم قداس كاثوليكي بعد مجزرة أورلاندو في ولاية فلوريدا العام الماضي.
وقال لصحيفة The Daily Beast الأميركية إن الدولة الإيطالية غالباً ما تعتمد على “الأعذار المعتادة” كي لا تعترف رسمياً بالإسلام كدين في إيطاليا، لكنه يأمل أن يشهد هذا الأمر تغيراً في المستقبل القريب. وأضاف: “كان لدينا جولات حوار بين الأديان إيجابية في الآونة الأخيرة”، مشيراً إلى دعوة البابا فرانسيس لزيارة الجامع الكبير في روما. وأضاف قائلاً: “هذه الزيارة يمكن أن تساعد فقط في مسألة الاعتراف، إلا أن قضية الإندماج، بطبيعة الحال، مسألة أخرى تماماً”.
أما ألينا، الطفلة الصغيرة فستقضي أفضل فترة من حياتها الجديدة في إيطاليا، حيث قالت: “هناك هدايا تُوزَع في عيد الميلاد”، مشيرةً إلى أن فكرة بابا نويل تبدو بعيدة المنال قليلاً.
وأضافت والدتها هالة: “سنفعل ما يتعين علينا القيام به لجعل حياتنا أفضل في الوقت الراهن.. ضمن الحدود، بطبيعة الحال”.