بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا الأسبوع إعادة تشكيل وصياغة دور أميركا في العالم بوضع خطة عمل تقوم على سلسلة من المرسومات الرئاسية والقرارات التنفيذية التي تصب في إطار شعار حملته الانتخابية “أميركا أولاً” في السياسة الخارجية.
وكان ترامب لتوه قد أعطى الأوامر التفويضية لبدء تشييد جدار على طول الحدود مع المكسيك مع تشديد تطبيق سياسة الهجرة المحلية؛ أما من أوامره الأخرى التي مازالت في صيغة مسودة لم توقع بعد فهناك وقف قبول اللاجئين وحظر دخول مواطني 7 بلدان ذات أغلبية مسلمة. كما هنالك إعلان وقف الاتفاقيات متعددة الأطراف الجديدة وأمر رسمي بتدقيق حسابات التمويل الأميركي للمنظمات الدولية كالأمم المتحدة، مع توجه لخفض المساهمات الأميركية الطوعية بنسبة 40%، وفق تقرير واشنطن بوست.
إضافة إلى ذلك فإن ثمة أوامر أخرى قيد الانتظار حصلت الواشنطن البوست الأميركية على نسخة منها، منها ما يطالب بإعادة النظر في القدرات ونقاط الضعف الافتراضية على الإنترنت استباقاً لهجمات يعتقد أنها ستستخدم قوى أكبر، كذلك منها إيعاز للبنتاغون للإسراع بتطوير خطط من أجل خفض الإنفاق على أمور ما عادت من “الأولويات الكبرى” وفي الوقت نفسه تعزيز برامج التوسع في القوات المسلحة وتحديث برامج أسلحة “الردع” النووية الأميركية.
إعلان


كذلك من ضمن مسودات القرارات التي تخضع حالياً للتريث والتمهل للدراسة أمرٌ موجه لوزارة الخارجية لإعادة تقييم ما تعده منظمات إرهابية أجنبية، بغية السماح لها بإضافة جماعة الإخوان المسلمين إلى القائمة وفق ما قاله مسؤول في الإدارة لم يكن مخولاً بالخوض في التفاصيل. فمكانة وموقع الإخوان المسلمين أمرٌ يثير الجدل في الشرق الأوسط ما بين حركة سياسية شرعية وبين مجموعة إرهابية؛ وقطعاً إن أميركا بإدراجها الإخوان المسلمين ضمن القوائم الإرهابية ستسر بعض الدول كمصر وبعض دول الخليج، كما ستسيء إلى وتستفز البعض الآخر كتركيا وقطر.
قد يتسنى لترامب التوقيع على بعض هذه القرارات في وقت باكر كيوم الجمعة هذا 27 يناير/كانون الثاني 2017 خلال زيارة إلى البنتاعون على جدول أعماله في ذلك اليوم، أما البيت الأبيض فرفض التعليق على هذه الأوامر والقرارات.
لو دخلت هذه المبادرات والخطوات التي صاغها ترامب بشكل مبدئي حيز التطبيق فإنها كفيلة بإدخال أميركا عهداً جديداً من السياسة الخارجية بعد عقود من الزمن على اتفاق حزبيها القطبين على مسؤوليتها في نشر الديمقراطية ونصرة المغلوب وأن أميركا ستزدهر إن كان العالم متحداً مزدهراً بدوره.
في كل السياسات التي رسم ترامب معالمها لا تظهر أي مقايضات تعوّض المصالح الأميركية على المدى القصير بأخرى تخدم أهدافاً عالمية تصب في مصلحة أميركا على المدى البعيد؛ بل على العكس لقد نشر البيت الأبيض سياسة على موقعه في يوم نصيب ترامب قال فيها “إن العالم سيغدو أكثر سلاماً وأكثر ازدهاراً مع أميركا أقوى وأكثر احتراماً.”

وقال ترامب في خطابه يوم التنصيب “إن كل قرار في مجالات التجارة والضرائب والهجرة والسياسة الخارجية سيصاغ ليصب في مصلحة العمال الأميركيين والعائلات الأميركية. علينا حماية حدودنا من نهب البلدان الأخرى التي تصنع منتجاتنا وتسرق شركاتنا وتدمر وظائفنا. الحماية ستقودنا نحو ازدهار وقوة عظيمين.”
يرى ترامب في نفسه حامي حمى القلعة الأميركية وأنه المتصدي لعالم يعج كل يوم بالمزيد من الأخطار والفظائع؛ فقد قال يوم الأربعاء 25 يناير/كانون الثاني الجاري في مقابلة مع قناة ABC الإخبارية “العالم في فوضى عارمة”.
في بعض الأحيان يصعب تحديد هل يرسي ترامب قواعد القانون أم أنه يؤسس موطئ قدم للتفاوض فبعدما حصر الرئيس المكسيكي إنريكه بينيا نييتو في زاوية في موضوع تمويل جدار الحدود أشارت الإدارة يوم الخميس أنها رأت في إلغاء الزيارة الرئاسية المكسيكية لواشنطن مجرد تأجيل ليس إلا.
كوري شاكه مسؤولة سابقة في الأمن القومي خدمت في إدارة جورج بوش الابن وعارضت ترشح ترامب لرئاسة، قالت أن قرارات الأوامر التنفيذية هي حالياً بصدد إلحاق الضرر السياسي بحلفاء أميركا “فالأمر متسقٌ مع طريقة الرئيس ترامب في خلق البلبلة ومن ثم المضي بابتهاج كأن شيئاً لم يكن.”
العديد من أفكار ترامب ليست بالجديدة، بيد أنها مستلهمة من طيف سياسي واسع، فمنذ سنوات طوال والمحافظون الأميركيون ينادون بإعادة هيكلة النظام العالمي في القرن الـ21 الجديد بطرق منها التقليل الكبير لحجم مشاركة الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية.
يقول ريتشارد ن. هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمسؤول الرفيع في إدارة الرئيس بوش الابن السابقة إن كلمات ترامب وأفعاله تعكس “نظرة مفادها أن الوضع الراهن الذي تضخم خلال الـ70 عاماً الأخيرة بات يكلف الولايات المتحدة فوق ما يفيدها.” وأضاف هاس أن هذه النظرة التي تمتد من سياسة التجارة إلى التحالفات التقليدية “ذات عيوب أساسية في فرضيتها الزاعمة أن تدخل الولايات المتحدة وتزعمها العالم قد كلفنا أكثر مما أربحنا، بيد أن هذه النظرة تبدو مع ذلك رأيهم الذي يعتقدونه.”
وقد تحولت الأمم المتحدة بخليط مؤسساتها ومنظماتها المشوش التي قد تكون مجهولة مغمورة في كثير من الأحيان إلى هدف دائم يستهدفه ترامب خاصة أن منابرها تحولت إلى ساحات انتقاد للولايات المتحدة.
ومن جملة الاتفاقيات التي خصها ترامب بالذكر في سلسلة مراسيمه الرئاسية، هناك اثنتان تعدان هدفاً تقليدياً يضعه ترامب نصب عينه نظراً لفرضهما تطبيق “أجندات محلية راديكالية”، ألا وهما اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل، فهاتان الاتفاقيتان لم تصادق عليهم الولايات المتحدة، شأنها في ذلك شأن كثير من المعاهدات الأممية الأخرى.
فبناء على مقترح ترامب، إن على لجان داخلية رفيعة المستوى أن تتفحص المعاهدات متعددة الأطراف مع توجه نحو الانسحاب منها ومغادرتها، فضلاً عن خفض تمويل المنظمات الدولية بنسبة 40% إن كان في أجندتها “ما يتنافى مع المصالح الأميركية.” وليس واضحاً إن كان الغرض هو خفض تمويل أنشطة أميركية مثل قوات حفظ السلام وبرامج الإغاثة الإنسانية، فضلاً عن برامج سبق لترامب أن استهدفها تقوم بدعم الفلسطينيين وغيرهم من المجموعات التي لا تحبذها الإدارة الجديدة.
جون ب.بيلينغر الثالث خدم بصفة مستشار قانوني لكل من مجلس الأمن القومي ووزارة الخارحية في عهد الرئيس بوش الابن، يقول إن تفحص وتدقيق المعاهدات مبني على “أساس خاطئ.. يزعم أن الولايات المتحدة غدت عضوة في الكثير من المعاهدات متعددة الأطراف التي لا تخدم المصالح الأميركية.”
ويتابع بيلينغر القول إن هنالك “مئات كثيرة من المعاهدات متعددة الأطراف التي تخدم الأميركيين كل يوم بطرق حقيقية ملموسة: وأن من دونها “لن يغدو الأميركيون قادرين على توصيل رسائلهم إلى البلدان الأجنبية ولن يتمكنوا من الطيران فوق البلدان الأجنبية أو قيادة سياراتهم على الطرقات والشوارع الأجنبية مكتفين بشهادة سواقة ولايتهم، كما لن يتاح لهم الاستعانة بمسؤول استشاري أجنبي في حال التعرض لاعتقال خارج البلاد، ولن يمكننا استعادة أطفالنا إن اختطفهم أحد الوالدين وفر بهم خارج البلاد، كما لن نقدر أن نمنع السفن الأجنبية من تلويث مياهنا.”
وفي حين ستدخل حيز التنفيذ الفوري كل من تفويضات بناء الجدار الحدودي وتعزيز فرض قانون الهجرة وحظر اللاجئين، فإن قرارات أخرى موضوعة قيد الانتظار تقوم باستغلال وقتها في تأسيس لجان وإجراء تدقيقات.
تبدأ مسودة مرسوم البنتاغون ببيان “إن سياسة الولايات المتحدة ستكون تحقيق السلام من خلال القوة” ويوعز المرسوم إلى وزير الدفاع جيمس ماتيس لصياغة استراتيجية دفاع قومية –وهو ما من المفروض أن تقوم به فعلاً كل إدارة بصورة منتظمة- مع بداية عام 2018.

ما من أسباب ظاهرية تثير الجدل في مسودة المرسوم الرئاسي الخاص بتعزيز أمن فضاء الإنترنت، هذه المسودة المكونة من 6 صفحات ذات لهجة ومحتوى أشبه بإدارة أوباما ولعلها كتبت في عهد تلك الإدارة المنصرمة؛ فهي لا تنادي بمبادرات جريئة، بل إلى مجرد تدقيق الجوانب التي كان سلف ترامب قد دققها وتفحصها.
لكن سطراً واحداً في المرسوم المقترح يبدو أنه يشير إلى أن الإدارة الجديدة قد ترغب بإعادة ترتيب وتنظيم المؤسسات أو تعزيز السلطات القانونية بغية حماية أفضل لشبكات حكومة البلاد المدنية وبنيتها التحتية ذات الأهمية الحساسة.
وفيما ترامب منشغل بتوجيه أوامره التنفيذية ومرسوماته الرئاسية يسعى البيت الأبيض من جهته لفرض سيطرته المباشرة على عملية صياغة السياسة في كل وزارات ومؤسسات ووكالات الدولة الفيدرالية. فرغم أن العديد من مناصب وكراسي الوزارات ما زالت شاغرة بانتظار صدور الموافقة على مرشحي الإدارة ورغم أنه حتى المناصب الفرعية للإدارة لم تكتمل هي الأخرى بعد إلا أن مستشارين كباراً من الجناح الغربي للبيت الأبيض تم فرزهم ليكونوا همزة الوصل بين إدارة البيت الأبيض وبين مختلف الوزارات، حرصاً على تماشي العمل المنجز مع أولويات البيت الأبيض.
وعن الرأي القائل أن بعض تحركات ترامب على الأقل قد تكون رمزية في مجملها وأن السياسات النهائية قد تصبح أكثر تقليدية، قالت شاكه “يا إلهي، هذا مُنانا وأملنا أن يقوم بخطوات وحركات رمزية سريعة تسر قاعدته الشعبية فيما تفاصيل السياسة تعالج وتنحل لاحقاً عندما يكتمل لديه مجلس إدارة قائم على رأس عمله.”
وختمت شاكه بالقول “إن الجانب السلبي طبعاً هو أن ذلك يجر علينا كافة السلبيات الدبلوماسية والاقتصادية الناجمة عن اتخاذ خطوات هذه السياسة حتى لو كانت مجرد حركة رمزية.”
هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Washington Post الأميركية.