لم تكن الأغاني الجميلة التي علقت بوجدان الشعوب العربية مجرد كلمات لحّنها ملحنون وشدا بها مطربون، بل كانت كل أغنية لها حكاية وموقف وحوار جرى بين الجميع لتعديل وحذف بعض الجمل والكلمات لتصل في النهاية إلى آذان المستمعين جلية واضحة، ممتعة ومبدعة، ترقد في ذاكرة الفن العربي كتحفة فنية بتوقيع أعظم الشعراء والملحنين والفنانين.
وكان الشاعر الكبير نزار قباني، الذي رافق الملحّنين والمطربين، الأكثر تعديلاً لنصوصه الشعرية قبل أن تصل إلى حلّتها الغنائية.
وفى أحد الفيديوهات النادرة على موقع “يوتيوب” يرضخ نزار لمطالب عبدالحليم حافظ في تعديل بعض أبيات قصيدته “قارئة الفنجان”، وكان الرضوخ والاستسلام بعد أن اقتنع الشاعر الكبير بوجهة نظر “العندليب”.
عبدالحليم لم يكن هو المطرب الوحيد الذي يقوم بتعديل كلمات الأغاني المكتوبة له، بل سبقته كوكب الشرق أم كلثوم وفيروز وفريد الأطرش، واستجاب لهم المؤلفون والشعراء، ومنهم على سبيل المثال أحمد رامي الذي غيّر لأحمد شوقي في قصيدة “الملك بين يديك” وغنتها أم كلثوم، فحذف أبياتاً وأضاف إليها بيتين هما “يا جنة الوادي ونزهة روحه ونعيم بهجته وراحة باله… فاروق جملها وزان ضفافها عرش يلوذ الشعب تحت ظلاله”.
كذلك يُذكر عن أم كلثوم أنها كانت تحذف الأبيات المتعلقة بالخمر لدواعٍ دينية واجتماعية.
ويلفت مؤلف مسرحية “آخ يا بلدنا” في هذا المجال إلى أن محمد عبدالوهاب غنّى لأحمد شوقي “علّموه كيف يجفو فجفا”. وبالمقارنة، تبين أن ثلاثة أبيات من القصيدة غناها عبدالوهاب لم ترد في “الشوقيات” المكتوبة، وهي: “غصن بان كلما عاتبته عطفته رِقة فانخطفا.. وإذا مثلته في خاطري صفق القلب له وهفا.. أنا سهران على عهد الهوى لم أنم وهو بعهدي ما وفا”.
نزار الأكثر تعديلاً لقصائده
ويروى الكاتب المسرحي فارس يواكيم في كتابه “حكايات الأغاني رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية” أن الشاعر الكبير نزار قباني كان الشاعر الأكثر تعديلاً في قصائده، وكان حاضراً لإجراء التعديلات وتبديل الكلمات، حتى أنه في بعض الأحيان كتب نصاً جديداً.
ويذكر المؤلف أن أم كلثوم غنّت من قصيدة “أصبح عندي الآن بندقية”، التي حذف منها البيت الآتي: “مشيئة الأقدار لا تردني أنا الذي أُغير الأقدار”.
ومن التعديلات في الألفاظ لعدم الملاءمة للغناء، كما يقول يواكيم ما أدته ماجدة الرومي لنزار قباني من قصيدة “يا ست الدنيا يا بيروت” بعدما أبدل الشاعر بعض الألفاظ مثل: “وأهديناك مكان الوردة سكيناً, نعترف أمام الله العادل, أنّا راودناك، وعاشرناك، وضاجعناك, وحمّلناك معاصينا”. وقد صارت الأغنية: “بأنّا جرحناك، وأتعبناك, بأنا أحرقناك، وأبكيناك, وحمّلناك، أيا بيروت، معاصينا”.
ويروي الكاتب واقعة أخرى لتعديل بعض كلمات الأغاني فيقول إنه حين ذهب الشاعر أحمد شفيق كامل ليطلع أم كلثوم على كلمات أغنية “أنت عمري”، كان قد كتب المطلع الآتي: “شوقوني عينيك لأيامي إللي راحوا”، فاقترحت كوكب الشرق “رجعوني عينيك”، فاقتنع الشاعر وعدّل المطلع.
وحين قرأ بيرم التونسي على مسامعها كلمات أغنية “غنيلي شوية شوية”، قال: “غنيلي يا نور عيني”، فقالت أم كلثوم: “غنيلي وخد عيني”، فهتف بيرم “كده أحسن”، وعدل قصيدته.
ويضيف الكاتب قائلاً: “هناك أيضاً قصيدة “عش أنت” وفيها كتب الأخطل الصغير في أحد الأبيات “وحياة عينك وهي عندي مثلما القرآن عندك”، ولم يكن من الممكن أن يغنيها فريد الأطرش هكذا، فتغيرت كلمة “القرآن” وأصبحت “الإيمان”.
كما لم يكن من الممكن أن يغني كاظم الساهر “يا طعم الثلج وطعم النار ونكهة كفري ويقيني” في أغنية “زيديني عشقاً”، فقام الشاعر نزار قباني بتغيير “كفري” وكتب “شكـّي” بدلاً منها.
تعديل كلمة واحدة بقصيدة إيليا أبوماضي
ويقول إنه ثمة موقف طريف بالنسبة إلى أغنية “لست أدري” التي غناها محمد عبدالوهاب ثم عبدالحليم حافظ، فلم يطرأ على قصيدتها تعديل سوى بالنسبة إلى كلمة واحدة، لكن معناها تغيّر تماماً حين غناها عبدالحليم في فيلم “الخطايا”، وهي قصيدة إيليا أبوماضي، ففيها تساؤلات حول الوجود والمصير. وفي الفيلم، وبعد مشهد عاصف، يعرف عبدالحليم أن عماد حمدي، الذي كان يعتقد أنه أبوه ليس أباه، فيخرج من البيت مصدوماً حزيناً فهو يشعر بأنه لقيط مجهول الأب، وفي الشارع يغني “جئت لا أعلم من أين، لكني أتيت”.
ويذكر يواكيم في كتابه أيضاً أنه جرت العادة في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي أن تحيي فيروز أمسيات غنائية كل صيف في دمشق بمناسبة المعرض الدولي، وفي معظم المواسم كانت تقدم مسرحية غنائية وفي بعضها منتخبات من أغانيها، غير أنها في كل المواسم كانت تفتتح الأمسية بقصيدة عن دمشق أو سوريا. وفي عام 1971 غنّت قصيدة نزار قباني “موال دمشقي” من الأعمال السياسية الكاملة ومستهلها: “لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا.. وقد بكينا وبللنا المناديلا.. قل للذين بأرض الشام قد نزلوا.. قتيلكم بالهوى مازال مقتولا”. وفي الأصل: “قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولا”.
وقد غنت فيروز القصيدة كاملة باستثناء بيتين في وسط القصيدة، وهما: “أيام في دمر كنا وكان فمي.. على ضفائرها حفراً وتنزيلا.. والنهر يسمعنا أحلى قصائده.. والسرو يلبس بالساق الخلاخيلا”.
ويصف الكاتب هذه التعديلات بالاعتداءات البيضاء التي مارسها الملحنون والمطربون على القصائد، برضا الشعراء أو تذمرهم، بعلمهم أو بجهلهم للأمر, ولكن في أحيان كثيرة تبدو هذه “الاعتداءات” عميقة و”مؤذية” للقصيدة لمصلحة الأغنية واللحن، فالتعديل لا يراعي القصيدة نفسهاً خصوصاً عندما تنقلب بعض المعاني، وهذا ما وصفه الكاتب بـ”الجرم المشهود”.